الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***
وهي جمع وصية، والوصية: طلب فعل يفعله الموصى إليه بعد غيبة الموصي أو بعد موته فيما يرجع إلى مصالحه كقضاء ديونه والقيام بحوائجه ومصالح ورثته من بعده وتنفيذ وصاياه وغير ذلك، قال: فلان سافر فأوصى بكذا، وفلان مات وأوصى بكذا، والاستيصاء: قبول الوصية، يقال: فلان استوصى من فلان: إذا قبل وصيته. قال عليه الصلاة والسلام: (استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم) أي اقبلوا وصيتي فيهن فإنهن أسرى عندكم. (وهي) قضية مشروعة وقربة (مندوبة) دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء: 11] وهذا دليل شرعيتها. والسنة ما روي (أن سعد بن أبي وقاص مرض بمكة فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث، فقال: يا رسول الله إني لا أخلف إلا بنتا أفأوصي بجميع مالي ؟ قال: ' لا ' قال: أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال: ' لا '، قال: فبنصفه ؟ قال: ' لا '، قال: فبثلثه ؟ قال: ' الثلث والثلث كثير، لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ' أي يسألون الناس كفايتهم، وقال عليه الصلاة والسلام: ' إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم تضعوه حيث شئتم) وفي رواية (حيث أحببتم) وهذا يدل على شرعيتها وينفي وجوبها، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر له مال يوصي فيه أن يبيت ليلتين إلا وصيته تحت رأسه) وهذا يدل على الندبية. وأما الإجماع فإن الأئمة المهديين والسلف الصالح أوصوا، وعليه الأمة إلى يومنا هذا، ولأن الإنسان لا يخلو من حقوق له وعليه، وأنه مؤاخذ بذلك، فإذا عجز بنفسه فعليه أن يستنيب في ذلك غيره والوصي نائب عنه في ذلك، فكان في الوصية احتياطا للخروج عن عهدتها فيندب إليها وتشرع تحصيلا لهذه المصالح. قال: (وهي مؤخرة عن مؤونة الموصي وقضاء ديونه) على ما يأتي في الفرائض إن شاء الله تعالى (وهي مقدرة بالثلث تصح للأجنبي مسلما كان أو كافرا بغير إجازة الورثة) لما روينا من حديث سعد وغيره وهي مطلقة لا تتقيد بالمسلم ولا بغيره. قال: (وما زاد على الثلث وللقاتل والوارث تصح بإجازة الورثة) لأن الوصية بما زاد على الثلث لا تجوز لحديث سعد. وفي الحديث (الحيف في الوصية من الكبائر) قيل معناه بما زاد على الثلث وللوارث، وإنما امتنع ذلك لحق الورثة، لأن المريض مرض الموت قد استغنى عن المال وتعلق حقهم به، إلا أنه لم يظهر ذلك في الثلث بما سبق من الحديث، ولحاجته إليه ليتدارك ما فرط منه وقصر في عمله، فإذا أجازت الورثة ذلك فقد رضوا بإسقاط حقهم فيصح. (وتعتبر إجازتهم بعد موته) لأنه عند ذلك ثبت حقهم فيه لا قبله، وإنما يسقط الحق بعد ثبوته، فإذا أجازوه بعد الموت فقد أسقطوا حقهم بعد ثبوته فيصح، وكذلك الوصية للوارث إنما امتنعت لحق باقي الورثة، لأن الوصية لا تجوز لوارث، قال عليه الصلاة والسلام: (لا وصية لوارث ولا إقرار بدين) وفي رواية (لا وصية لوارث إلا أن تجيزها الورثة) ولأنه حيف في الوصية لما مر، ولأنه تعلق به حق الجميع على ما بينا، فإذا خصّ به البعض يتأذّى الباقي ويثير بينهم الحقد والضغائن ويفضي إلى قطيعة الرحم، فإذا أجازه بقية الورثة علمنا أنه لا حقد ولا ضغائن فيجوز، فإن أجاز البعض وردّ البعض جاز في حق المجيز بقدر نصيبه، وبطل في الباقي لولايته على نفسه دون غيره. وأما الوصية للقاتل فلا تجوز إذا وجد القتل مباشرة عمدا كان أو خطأ. قال عليه الصلاة والسلام: (لا وصية لقاتل) وكذا لو أوصى لرجل فقتله تبطل الوصية لما قلنا لأن نفاذ الوصية بعد الموت، فإذا أجازتها الورثة جازت. وقال أبو يوسف: لا تجوز عملا بإطلاق الحديث، ولأنه إنما لم تجز لجنايته وهي باقية. ولنا أن الامتناع لحق الورثة لأن بطلانها نفع يرجع إليهم كبطلانها للوارث وبما زاد على الثلث، فإذا أجازوا ذلك فقد أسقطوا حقهم فيسقط، وكل ما توقف على إجازة الورثة فأجازوه فالموصى له يملكه من جهة الموصي لأن السبب صدر منه، والإجازة رفع المانع كالمرتهن إذا أجاز بيع الرهن. قال: (ولا تصح إلا ممن تصح تبرعه) فلا تصح من الصبي والمجنون والمكاتب والمأذون، لأن الوصية تبرع محض لا يقابله عمل مالي ولا نفع دنياوي فصار كالهبة وتنجيز العتق؛ وكذلك لو أوصى الصبي والمجنون ثم ماتا بعد البلوغ والإفاقة لعدم الأهلية حالة المباشرة؛ وكذلك لو قال: إن أدركت فثلثي لفلان وصية لا تصح لعدم أهلية التصرف، فلا يملكه تنجيزا ولا تعليقا كالعتاق والطلاق؛ وأما العبد والمكاتب إذا أضافاها إلى ما بعد عتقهما لا تصح لأنهما أهل لذلك، وإنما امتنع في الحال لحق المولى، فإذا زال حق المولى زال المانع فتصح. قال: (ويستحب أن ينقص من الثلث) لقوله عليه الصلاة والسلام: (والثلث كثير) أي في الوصية، وعن علي رضي الله عنه: لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث، ولأن فيه صلة القريب بتركه حقه لهم، ولا صلة فيما أوصى بالثلث تاما لأنه استوفى حقه فلا صلة. قال: (وإن كانت الورثة فقراء لا يستغنون بنصيبهم فتركها أفضل) لما فيه من الصلة والصدقة عليهم: قال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح) وقال عليه الصلاة والسلام: (لا صدقة وذو رحم محتاج) وهو كما قال عليه الصلاة والسلام: (صدقة وصلة) لأنه فقير فيكون صدقة وقريب فيكون صلة، وإن كانوا أغنياء أو كانوا يستغنون بميراثهم، قيل الوصية أولى، وقيل يخيّر لأن الوصية صدقة أو مبرة وتركها صلة والكل خير. قال: (وتصح للحمل به وبأمه دونه) أما للحمل فلأن الوصية استخلاف للموصى له في المال الموصى به، والحمل أهل لذلك كما في الميراث والوصية أخته، إلا أنها تبطل بالرجوع، لأن الملك إنما يثبت له بعد الموت، بخلاف الهبة لأنه تمليك للحال، وليس لأحد نقل الملك عنه فلا ينتقل؛ ثم إن كان الزوج ميتا، فإن ولدت لأقل من سنتين وانفصل حيا جازت، وإن انفصل ميتا لم تجز، لأنه يحال بالعلوق إلى أبعد الأوقات حملا لأمرها على الصلاح، ولهذا يثبت نسبه إلى سنتين؛ وإن كان الزوج حيا فولدته لستة أشهر لا تصح الوصية، لأن في الوطء الحلال يحال بالعلوق إلى أقرب الأوقات لأنه لا يتيقن بوجود الحمل وقت الوصية إلا إذا ولدته لأقل من ستة أشهر. وأما الوصية به فإنما تصح إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر حتى يكون موجودا وقت الوصية، فإذا كان موجودا صحت الوصية به كالوصية بسائر الموجودات، ولأن الوصية تصح بالثمرة وهي غير موجودة فلأن تصح بالموجود أولى. وأما الوصية بأمه دونه فلأنه لما صح إفراده عنها صح إفرادها عنه، لأن ما صح إفراده بالعقد يصح استثناؤه، وما لا فلا كما في المبيع وغيره، وهذا لأن اسم الجارية لا يتناول الحمل لكن عند الإطلاق يتبعها ضرورة الاتصال، فإذا أفردها نصا صح لأن كل واحد منهما نفس بانفراده في الأصل. قال: (ويعتبر في المال والورثة الموجود عند الموت) حتى لو أوصى بثلث ماله ولا مال له ثم اكتسب مالا ومات أو كان له فذهب أو نقص، فإن المعتبر ماله حالة الموت، لأن وقتئذ تنفذ الوصية وينتقل المال إلى ملك الموصى له، وكذلك الورثة لا اعتبار لمن مات قبله لا بإجازته ولا برده لأن المال إنما ينتقل إليهم بعد الموت فلا اعتبار بغير المالك. قال: (وقبول الوصية بعد الموت) حتى لو أجازها قبله أو ردها فليس بشيء، لأن حكمه وهو ثبوت الملك إنما يثبت بعد الموت فلا اعتبار بما يوجد قبله كما إذا وجد قبل العقد وهو إنما يملكه بالقبول لأنه تمليك بعقد فيتوقف على القبول كغيره من العقود، بخلاف الميراث لأنه خلافة عن الميت حتى يثبت للوارث خيار العيب دون الموصى له ويثبت جبرا شرعا من غير قبول، ولأنه لو ملك الموصى به من غير قبول كان للموصي إلزامه الملك بغير اختياره، ولا ذلك إلا لمن له عليه ولاية، ولا ولاية له عليه، ولأنه لو جاز ذلك لأوصى له بما يضره مثل ما إذا علّق طلاقه بملكه وأنه لا يجوز وإذا كان القبول شرطا لا يملكه الموصى له إلا بالقبول إلا أن يموت الموصى له بعد الموصي قبل القبول فتملكها الورثة، والقياس بطلان الوصية لما بينا، إلا أنا استحسنا وقلنا يملكها الورثة، لأن الوصية تمت من جهة الموصي تماما لا يحلقه الفسخ من جهته، والتوقف لحق الموصى له دفعا لضرر لحوق المنة ولا يلحقه بعد الموت فنفذت الوصية ضرورة تعذر الرد كما إذا مات المشتري والخيار له قبل الإجازة، فإن المبيع يدخل في ملكه كذا هذا. قال: (وللموصي أن يرجع عن الوصية بالقول والفعل، وفي الجحود خلاف) أما جواز الرجوع فلأنه تبرع لم يتم، لأن تمامه بالموت والقبول على ما بينا، فيجوز الرجوع قبل التمام، لأنه لو لزم قبل تمامه لم يكن تبرعا، والرجوع بالقول قوله: رجعت عن الوصية أو أبطلتها ونحو ذلك، والرجوع بالفعل مثل أن يفعل فعلا يزيل ملكه عن الموصى به كالبيع والهبة، لأنه إذا زال ملكه بطلت الوصية، لأن الوصية إنما تنفذ في ملكه، وسواء عاد إلى ملكه أو لا، وكذا إذا فعل فعلا لو فعله الغاصب ينقطع به حق المالك كان رجوعا، وكذلك فعل يكون استهلاكا من كل وجه وقد عرف تمامه في الغصب، وكذا إذا فعل ما يزيد به العين الموصى بها كالبناء والصبغ والسمن في السويق والحشو بالقطن وخياطة الظهارة على البطانة وبالعكس ونحوه لأنه لا يمكن تسليمه بدون الزيادة، ولا سبيل إلى نقصانها لحصولها بفعل المالك في ملكه، وذبح الشاة رجوع لأنه لحاجته عادة فلا يبقى إلى وقت الموت. وأما الجحود فهو رجوع عند أبي يوسف خلافا لمحمد، لأن الجحود نفي في الماضي، وانتفاؤه في الحال للضرورة، فإذا كان ثابتا في الحال كان الجحود لغوا. ولأبي يوسف أن الرجوع نفي في الحال، والجحود نفي في الماضي والحال فأولى أن يكون رجوعا، ومن الرجوع قوله: العبد الذي أوصيت به لفلان هو لفلان آخر، أو أوصيت به لفلان، لأن هذا يدل على قطع الشركة، ولو كان فلان الآخر ميتا لا يكون رجوعا، لأن الأولى إنما بطلت ضرورة صحة الثانية ولم تصح، ولو كان حيا ثم مات قبل الموصي بطلت الأولى لصحة الثانية وبطلت الثانية بالموت؛ ولو أوصى به لرجل ثم أوصى به لآخر فهو بينهما، وليس برجوع لأنه يحتمل الشركة، واللفظ غير قاطع لها بل صالح فيثبت لهما. قال: (وإذا قبل الموصى له الوصية ثم ردها في وجه الموصي فهو رد) لأنه ليس له إلزامه بغير اختياره (وإن ردها في غير وجهه فليس برد) لما فيه من خيانة الميت وغروره، فإن الموصي مات معتمدا عليه واثقا بخلافته بعده في أموره وتركته فلا يجوز رده، بخلاف الوكيل حيث له الرجوع، لأن الموكل حي يقدر على التصرف بنفسه، وعلى أن يوكل غيره فافترقا، وإن لم يقبلها ولم يردها حتى مات الموصي فهو بالخيار إن شاء قبل، وإن شاء لم يقبل، لأن الموصي ليس له إلزامه فيخير، ثم القبول كما يكون بالقول يكون بالفعل لأنه دلالة عليه، وذلك مثل أن يبيع شيئا من التركة بعد موت الموصي وينفذ البيع لصدوره من الأهل عن ولاية، وكذا إذا اشترى شيئا يصلح للورثة أو قضى مالا أو اقتضاه لزمته الوصية، وسواء علم بالوصية أو لم يعلم لأنها خلافة، ألا ترى أنها إنما تثبت حال انقطاع ولاية الموصي فتنتقل الولاية إليه فلا يحتاج إلى العلم ولا يتوقف عليه كالإرث. قال: (فإن كان عاجزا ضم إليه القاضي آخر، وإن كان عبدا أو كافرا أو فاسقا استبدل به). اعلم أن الأوصياء ثلاثة: أمين قادر على القيام بما أوصى إليه، فإنه يقرر وليس للقاضي عزله لأن مقصوده الموصي القيام بأموره وما أوصى إليه به، فإذا حصل فتغييره إبطال لقصده فلا يجوز. وأمين عاجز فالقاضي يضم إليه من يعينه، لأن الوصية إليه صحيحة لا يجوز إبطالها، إلا أن في انفراده نوع خلل ببعض المقصود لعجزه فيضم إليه آخر تكميلا للمقصود. وفاسق أو كافر أو عبد فيجب عزله وإقامة غيره لأنه لا تصح نيابته، لأن الميت إنما أوصى إليه معتمدا على رأيه وأمانته وكفايته في تصرفاته وهؤلاء ليسوا كذلك. أما الفاسق فلاتهامه بالخيانة، وأما الكافر فللعداوة الدينية الباعثة له على ترك النظر للمسلم، وأما العبد فلتوقف تصرفه على إجازة مولاه وتمكنه من حجره بعد ذلك فيخرجهم القاضي ويقيم من يقوم بمصالح الميت، لأن القاضي نصّب ناظرا للمسلمين، ألا يرى أنه لو لم يوص إلى أحد فللقاضي أن يقيم وصيا كذا هذا. قال: (وإن أوصى إلى عبده وفي الورثة كبار لم تصح) لأن للكبير بيعه أو بيع نصيبه فيعجز عن الوصية لأن المشتري يمنعه فلا تحصل فائدة الوصية (وإن كانوا صغارا جازت) وقالا: لا تجوز وهو القياس لأن الرق ينافي الولاية، وفيه إثبات ولاية المملوك على المالك، وهو قلب المشروع وعكس الموضوع. ولأبي حنيفة أنه أهل للولاية مخاطب مستبد بالتصرف فيكون أهلا للوصية، ولا ولاية عليه لأنهم لا يملكون بيعه وإن كانوا ملاكا، وليس لهم منعه ولا منافاة وصار كالمكاتب، وإن أوصى إلى صبي أو عبد أو كافر فلم يخرجهم القاضي حتى بلغ أو أعتق أو أسلم، فالوصية ماضية لزوال الموجب من العزل، إلا أن يكون غير أمين لما بينا، وإن أوصى إلى مكاتبه جاز لوجود الأهلية والقدرة على إنفاذ الوصية، فإن أدى عتق وهو على وصيته، وإن عجز رد في الرق فحكمه حكم العبد، وقد بيناه. قال: (وليس لأحد الوصيين أن يتصرف دون صاحبه) وقال أبو يوسف: لكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف في جميع الأشياء، لأن الوصية خلافة، وذلك إنما يكون إذا ثبت للخليفة مثل ما كان للمستخلف. ولهما أن الموصي ما رضي إلا برأيهما، وهذا لأن الولاية إنما تثبت بتفويضه فيراعي وصفه وهو الاجتماع، وفي اجتماع رأيهما مصلحة فيتقيد به لأنه شرط مفيد، بخلاف الأشياء المستثناة لأنها ضروريات، والضروريات مستثناة وهي تجهيز الميت ومؤونة الصغار من طعامهم وكسوتهم والخصومة ورد الوديعة والمغصوب وقضاء الديون وعتق عبد بعينه وتنفيذ وصية بعينها؛ أما تجهيز الميت لأن في تأخيره فساده حتى كان للجار فعله، وكذا مؤونة الصغار لأنه يخاف عليهم جوعا وعريا، والخصومة لا يمكن الاجتماع عليها وباقي الصور الاجتماع والانفراد فيه سواء لأنها لا تحتاج إلى الرأي، وكذا رد المشتري شراء فاسدا وحفظ الأموال وقبول الهبة، لأن في التأخير خوف الفتنة، وكذلك جميع الأموال الضائعة وقبول ما يخشى عليه التلف. قال: (ولو مات أحدهما أقام القاضي مكانه آخر) أما عندهما فظاهر لأن الواحد لا ينفرد بالتصرف عندهما. وأما عند أبي يوسف فلأن الواحد وإن كان يملك التصرف لكن الموصي قصد أن يخلفه اثنان في حقوقه، وقد أمكن تحقيق قصده بنصب وصي آخر فينصب، ولو أن الوصي الميت أوصى إلى الثاني فله التصرف وحده كما إذا أوصى إلى آخر لأن رأيه باق حكما برأي وصيه، ولهذا جاز أن يوكله حال حياته في التصرف في مال الميت فكذا الوصية. وعن أبي حنيفة ليس له ذلك، لأن الموصي ما رضي بتصرفه وحده، بخلاف ما إذا أوصى إلى آخر، لأن مقصوده حصل برأي المثنى. قال: (وإذا أوصى الوصي إلى آخر فهو وصي في التركتين) تركته وتركة الميت الأول لأنه يتصرف بولاية مستقلة فيملك الإيصاء إلى غيره كالجد، لأن الولاية كانت ثابتة للموصي ثم انتقلت إلى الوصي في المال، وإلى الجد في النفس، والجد قام مقام الأب في ولاية النفس فكذا الوصي في ولاية المال، لأن الإيصاء إقامة غيره مقامه، وعند الموت كانت ولايته ثابتة في التركتين فكذا الوصي تحقيقا للاستخلاف، وكذلك لو أوصى إلى رجل في تركة نفسه وقد حضرته الوفاة يصير وصيا في التركتين في ظاهر الرواية، لأن تركة موصيه تركته لأن له ولاية التصرف فيها، وروي عنهما أنه يقتصر على تركته لأنه نص عليها وجوابه ما مر. قال: (ويجوز للوصي أن يحتال بمال اليتيم إن كان أجود) بأن كان أملأ أو أيسر قضاء وأعجل وفاء لأنه أنظر لليتيم والولاية نظرية ولهذا لا يجوز بيعه وشراؤه بما لا يتغابن إذ لا نظر له فيه، بخلاف الغبن اليسير لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، ففي اعتباره سد باب التصرفات. قال: (ويجوز بيعه وشراؤه لنفسه إن كان فيه نفع للصبي) بأن اشترى بأكثر من القيمة أو باعه بأقل منها، وقالا: لا يجوز قياسا على الوكيل. وله أنه قربان مال اليتيم بالتي هي أحسن فيجوز بالنص وصار كالأب. قال: (وليس للوصي أن يقترض مال اليتيم وللأب ذلك) لأن الأب يملك شراء مال الصبي بمثل قيمته، ولا كذلك الوصي، وكذلك الأب له أن يأخذ من مال الصبي عند حاجته بقدر حاجته، ولا كذلك الوصي (وليس لهما إقراضه، وللقاضي ذلك) لأن القرض تبرع ابتداء معاوضة انتهاء، فجعل معاوضة في القاضي لقدرته على الاستخلاص بواسطة الحبس وغيره تبرعا في حق غيره لعجزه نظرا واحتياطا في مال اليتيم. قال: (والوصي أحق بمال اليتيم من الجد) لأنه انتقلت إليه ولاية الأب بالإيصاء إليه، فكانت ولاية الأب قائمة حكما، ولأن اختياره الوصي مع علمه بالجد دليل أن تصرفه أنظر من تصرف الجد فكان أولى؛ فإن لم يوص الأب فالولاية للجد لأنه أقرب إليه وأشفق على بنيه فانتقلت الولاية إليه، ولهذا ملك النكاح مع وجود الوصي، وإنما يقدم الوصي في المال لما بينا، ووصي الجد كوصي الأب، لأن الجد بمنزلة الأب عند عدمه فكذا وصيه. قال: (وشهادة الوصي للميت لا تجوز) لأنه ثبت لنفسه ولاية القبض (وعلى الميت تجوز) إذ لا تهمة في ذلك. (وتجوز للورثة إن كانوا كبارا ولا تجوز إن كانوا صغارا) أما الشهادة للكبار، قال أبو حنيفة: إن كانت في مال الميت لا تجوز وفي غيره تجوز. وقالا: تجوز في الوجهين لأنه لا ولاية لهما عليه فلا يثبتان لأنفسهما ولاية التصرف فلا تهمة، بخلاف الصغار لأنهما يثبتان لهما ولاية التصرف في المشهود به. ولأبي حنيفة أنهما يثبتان لهما ولاية الحفظ وولاية بيع المنقول عند غيبة الوارث فتحققت التهمة بخلاف ما إذا شهدا في غير التركة لأنه لا ولاية لهما في غيرها. وأما الشهادة للصغار فلا تجوز بحال للتهمة على ما بينا، وإن أوصى إلى رجل إلى أن يقدم فلان فإذا قدم فهو الوصي أو إلى أن يدرك ولدي فهو كما قال، لأنها في معنى الوكالة، ولأن الوصية مؤقتة شرعا ببلوغ الأيتام أو إيناس الرشد، فجاز أن تكون مؤقتة شرطا؛ ولو أوصى إلى رجل في ماله كان وصيا فيه وفي ولده؛ والوصي في نوع يكون وصيا في جميع الأنواع، لأنه لولا ذلك لاحتجنا إلى نصب آخر، والموصي قد اختار هذا وصيا في بعض أموره فيجعله وصيا في الكل أولى من غيره لأنه رضي بتصرف هذا في البعض ولم يرض بتصرف غيره في شيء أصلا؛ وإذا ادعى الوصي دينا على الميت ولا بينة له أخرجه القاضي من الوصية لأنه يستحل أخذ مال اليتيم، وقيل إن ادعى شيئا بعينه أخرجه وإلا فلا؛ والمختار أن يقول له القاضي: إما أن تقيم البينة وتستوفي أو تبرئه وإلا أخرجتك من الوصية، فإن أبرأه وإلا أخرجه وأقام غيره؛ وللوصي أن يدفع المال مضاربة، ويعمل فيه هو مضاربة، لأنه قائم مقام الأب، وللأب هذه التصرفات فكذا الوصي، فإن عمل بنفسه أشهد على ذلك، لأن له أن يتجر في مال الصغير. قال عليه الصلاة والسلام: (ابتغوا في مال اليتامى خيرا) فإذا أراد أن يستوجب طائفة من المال لنفسه بالمضاربة احتاج إلى الإشهاد نفيا للتهمة. وعن محمد إن لم يشهد فما عمله للورثة لأنه هو الظاهر فلا يترك إلا بدليل وهو الإشهاد، وللوصي أن يأكل من مال اليتيم إذا كان محتاجا، ويركب دابته إذا ذهب في حاجته، قال تعالى: {ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} [النساء: 6]. وروي عن أبي يوسف لو طمع السلطان في مال اليتيم فصالحه الوصي من مال اليتيم على أقل مما طمع لم يضمن لأنه مأمور بحفظ مال اليتيم ما أمكنه وقد أمكنه بهذا الطريق.
(وتجوز الوصية بخدمة عبده وسكنى داره وبغلتهما أبدا ومدة معلومة) لأن المنافع يصح تمليكها حال الحياة بعوض وغير عوض، فكذا بعد الممات للحاجة إلى ذلك كالأعيان؛ ثم إن الموصى له يتملكها على ملك الموصي كما قلنا في الوقف، وتجوز مؤقتا ومؤبدا كما في الإعارة والإجارة لأنها تمليك. قال: (فإن خرجا من الثلث استخدم وسكن واستغل) لأن الثلث حق الموصي فلا تزاحمه الورثة فيه، وهذا لأن الوصية بالمنفعة تمليك الرقبة في حق ملك المنفعة، لأنه لا يمكنه الانتفاع بالعين إلا بصيرورته أخص بملك الرقبة كالإجارة فكانت وصية بملك الرقبة في حق الانتفاع لا مطلقا (وليس له أن يؤاجرهما) لأنه ملك المنفعة بغير عوض فلا يملك تمليكها بعوض كالعارية، هذا لأن التمليك بعوض أقوى وألزم، والأضعف لا يتناول الأقوى. قال: (وإن لم يكن له مال غيرهما خدم الورثة يومين والموصى له يوما) لأنه لا يمكنه أن يخدمهم جملة واحدة، فالمهايأة فيه تقع على الأيام كما ذكرنا لأن حقه في الثلث وحقهم في الثلثين كالوصية بالعين، وهذا لأنه لا يمكن منع الجميع عن الورثة كما لا يملك الوصية بجميع العين؛ وإذا تقررت الوصية بالثلث وجبت المهايأة بالحصص كما قلنا. قالوا: والأعدل في الدار أن تقسم أثلاثا تسكن الورثة الثلثين والموصى له الثلث، لأنه فيه التسوية بينهما في الانتفاع زمانا وذاتا، وفي المهايأة ذاتا لا زمانا بخلاف العبد فإنه لا يتجزى فلا يمكن قسمته فتعينت المهايأة، فإن كان له مال آخر لكن لا يخرج من الثلث فعلى هذا الاعتبار يخدم الموصى له على قدر ثلث التركة والباقي للورثة مثاله: إذا كان العبد نصف التركة فإنه يخدم الموصى له يومين والورثة يوما، لأن ثلثي العبد ثلث التركة فصار الموصى به ثلثي العبد وثلثه للورثة فيقسم كما ذكرنا، وعلى هذا الاعتبار تخرّج بقية مسائله. قال: (فإن مات الموصى له عاد إلى الورثة) لأن الموصى له استوفى ما أوصى له به من المنافع على ملك الموصي كما بينا، فلو انتقلت إلى ورثته كان ابتداء استحقاق من غير رضي فلا يجوز، وإذا كانت على ملك الموصي تنتقل إلى ورثته كسائر أمواله؛ ولو أوصى بغلتهما فاستخدم بنفسه وسكن، قيل يجوز لاستواء الغلة والمنفعة في المقصود، وقيل لا يجوز وهو الأصح لأن الغلة دراهم أو دنانير والوصية بهما حصلت وهو استوفى المنافع، وهما غير متفاوتان في حق الورثة فإنه لو ظهر على الموصي دين أمكنهم استرداد الغلة وإيفاء الدين، ولا يمكنهم استرداد المنفعة بعد استيفائها فكان هذا أولى، وليس للورثة بيع الثلثين. وعن أبي يوسف جوازه لأنه خالص حقهم. وجه الظاهر أن حق الموصى له ثابت في سكنى الجميع لو ظهر له مال آخر تخرج الدار من الثلث وله حق المزاحمة في الثلثين لو خرب الثلث الذي في يده، والبيع يبطل ذلك فيمنعون عنه. ولو أوصى لرجل بخدمة عبده ولآخر برقبته وهو يخرج من الثلث فهو كما أوصى لأنه أوجب لكل واحد منهما شيئا معلوما حيث عطف أحدهما على الآخر فصار كحالة الانفراد وحكم الموصى له بالرقبة مع صاحب الخدمة كالوارث مع صاحب الخدمة. قال: (ومن أوصى بثمرة بستانه فله الثمرة الموجودة عند موته، وإن قال أبدا فله ثمرته ما عاش، ولو أوصى بغلة بستانه فله الحاضرة والمستقبلة) لأن الثمرة اسم للموجود عرفا فلا ينتظم المعدوم إلا بدليل آخر، وقوله أبدا صريح في إرادته فينتظمه، إذ لو لم ينتظمه لم يبق للتأبيد فائدة. أما الغلة فينتظم الموجود وما سيوجد مرة بعد أخرى عرفا، يقال فلان يأكل من غلة بستانه وأرضه وداره، ويراد به الموجود وما سيوجد عرفا فافترقا. قال: (وإن أوصى بصوف غنمه أو بأولادها أو بلبنها فله الموجود عند موته، قال: أبدا أو لم يقل) لأن الوصية تمليك عند الموت على ما عرف فيعتبر وجوده عند ذلك، وهذا لأن القياس يأبى تمليك المعدوم لعدم قبوله لذلك، إلا أن الشرع ورد بورود العقد على الغلة والثمرة المعدومة في المساقاة والإجارة فقلنا بجوازه في الوصية أيضا بالقياس، وبل أولى لأن باب الوصية أوسع، أما الولد والصوف واللبن لم يرد فيها شيء في المعدوم وإنما ورد في الموجود تبعا في عقد البيع ومقصودا في الخلع فكذا في الوصية يجوز في الموجود دون المعدوم اتباعا لمورد الشرع، ولو أوصى بغلة عبده وغلة داره في المسكين جاز، وبسكنى داره أو بخدمة عبده لهم لا يجوز إلا لواحد بعينه، لأنه لا يمكن سكنى الدار واستخدام العبد إلا بالمرمة والنفقة، ولا يمكن القضاء على واحد منهم فتعذر تنفيذ الوصية فبطلت. أما الغلة يمكن ترميم الدار والنفقة على العبد من الغلة فوجب تنفيذها. قال: (والعتق في المرض والهبة والمحاباة وصية) تعتبر من الثلث لأنها تبرعات في المرض بما تعلق به حق الورثة فتعتبر من الثلث لما بينا. قال: (والمحاباة إن تقدمت على العتق فهي أولى، وإن تأخرت شاركته) وقالا: العتق أولى كيف كان. وصورة المحاباة: أن يبيع المريض ما يساوي مائة بخمسين، أو يشتري ما يساوي خمسين بمائة فالزائد على قيمة المثل في الشراء والناقص في البيع محاباة وهي كالهبة في المرض فاعتبرت وصية. وفيه أربع مسائل: إحداها أن يحابي ثم يعتق. والثانية أن يعتق ثم يحابي. والثالثة أن يعتق ثم يحابي ثم يعتق. والرابعة أن يحابي ثم يعتق ثم يحابي. فإن خرج الكل من الثلث نفذت ولا كلام فيها ولا خلاف، وإن لم يخرج من الثلث، ففي المسألة الأولى تنفذ المحاباة، فإن فضل شيء فللعتق، وقالا بالعكس؛ وفي المسألة الثانية يشتركان، وقالا: ينفذ العتق فإن فضل شيء فللمحاباة؛ وفي الثالثة يصرف نصف الثلث للمحاباة لأنها تشارك العتق الأول عنده، ثم ما أصاب العتق الأول قسم بينه وبين الآخر نصفين؛ وفي الرابعة الثلث بين المحاباتين لاستوائهما، ثم ما أصاب الثانية قسم بينها وبين العتق لتقدمه عليها فيشاركها، وقالا: العتق أولى بكل حال. لهما أن العتق لا يلحقه الفسح ويلحق بالمحاباة فكان أولى. والتقدم في الذكر لا يوجب التقدم في الثبوت فلا اعتبار به. وفي أثر ابن عمر رضي الله عنهما إذا كان في الوصايا عتق بدئ به. ولأبي حنيفة أن المحاباة أقوى لأنها تثبت في ضمن عقد المعاوضة فكان تبرعا معنى لا صورة، والإعتاق تبرع صورة ومعنى، والمعاوضات أقوى من التبرعات، فإذا وجدت المحاباة أولا وهي أقوى لا يزاحمه الأضعف بعدها لقوته وسبقه، إلا أن العتق إذا تقدم وهو لا يقبل النقض تعارضا فيستويان فيشتركان. قال زفر: ما بدأ به الموصي منهما فهو أولى لأن بدايته دليل أن اهتمامه به أكثر فكان غرضه تقدمه فيتبع غرضه، وجوابه ما تقدم. ولو مات وترك عبدا فقال للوارث: أعتقني أبوك، وقال آخر: لي على أبيك ألف درهم، فقال صدقتما سعى العبد في قيمته؛ وقالا: يعتق من غير سعاية، لأن العتق والدين ظهرا معا في الصحة بتصديق الوارث بكلام واحد. والعتق في الصحة لا يوجب السعاية وإن كان على المعتق دين. وله أن الدين أقوى لأنه يعتبر من جميع المال، والإقرار بالعتق في المرض يعتبر من ثلث المال، وكان ينبغي أن يبطل العتق إلا أنه لا يبطل بعد وقوعه فأبطلناه معنى بإيجاب السعاية. قال: (ومن أوصى بحقوق الله تعالى قدّمت الفرائض) لأنها أهم من النوافل، لأن الفرائض تخرجه عن العهدة، والنوافل تحصل له زيادة الثواب، والأوّل أولى، فالظاهر أنه أراد الأهم والأولى (وإن تساوت) بأن كان الكل فرائض (قدم ما قدمه الموصي إن ضاق الثلث عنها) لأن الظاهر أنه بدأ بالأهم، وقيل يبدأ بالحج ثم بالزكاة لأنه يؤدى بالمال والنفس، وقيل بالزكاة ثم بالحج لأنه تعلق بها حق العباد فكانت أولى، ثم بعدهما الكفارات لأنهما أقوى منها في الفرضية والوعيد على الترك، ثم صدقة الفطر بعد الكفارات، لأن الكفارات عرف وجوبها بالقرآن وصدقة الفطر بالسنة، ثم الأضحية لأن صدقة الفطر مجمع على وجوبها والأضحية مختلف فيها (وما ليس بواجب يقدم ما قدمه الموصي) لما مر.
(ومن أوصى بثلث ماله لرجل ولآخر بسدسه فالثلث بينهما أثلاثا) لأن الثلث ضعف السدس، فقد أوصى لأحدهما بسهمين وللآخر بسهم (ولو أوصى له بثلثه ولآخر بثلثه أو بنصفه أو بجميعه فالثلث بينهما نصفان) وهذا كله إذا لم تجز الورثة. أما الأولى فبالإجماع لاستوائهما في قدر الوصية والثلث لا يتسع لهما فيستويان فيه. وأما الثانية والثالثة فمذهب أبي حنيفة (ولا يضرب الموصى له وبما زاد على الثلث) عنده (إلا في المحاباة والسعاية والدراهم المرسلة) وقالا: يضرب لكل واحد بقدر ما أوصى له كما إذا أجازت الورثة، فإنه يقسم الكل على قدر ما أوصى لهما كذلك ههنا، فيقسم الثلث عندهما في المسألة الثانية على خمسة، ثلثه للموصى له بالنصف، وسهمان للموصى له بالثلث. وفي المسألة الثالثة على أربعة: ثلاثة للموصى له بالجميع، وسهم لصاحب الثلث، وهذا لأن الموصي قصد تفضيل البعض في الوصية فوجب اعتباره ما أمكن، وقد أمكن بطريق الضرب كما ذكرنا، ولا ضرر على الورثة في ذلك فيصار إليه. وله أن الوصية فيما زاد على الثلث باطلة في حق الاستحقاق عند عدم الإجازة لكونها وصية بما لا يستحقه فبطل حق الضرب ضرورة عدم الاستحقاق، وإنما قصد التفضيل بناء على الاستحقاق والإجازة بدليل إضافته الوصية إلى جميع المال وقد بطل الاستحقاق والإجازة فيبطل التفضيل، كالمحاباة الثابتة في ضمن البيع إذا بطل البيع تبطل المحاباة، بخلاف الفصول الثلاثة، لأن الوصية بالألف المرسلة والمحاباة لم تقع على حق الورثة قطعا لجواز نفاذها بأن يظهر له مال فتخرج من ثلثه بدون الإجازة، والوصية بالعتق وصية بالسعاية، وهي كالدراهم المرسلة، بخلاف ما زاد على الثلث لأنه حق الورثة وإن كثرت التركة. ومن أوصى لرجل بثلث ماله إلا شيئا أو إلا قليلا فله نصف الثلث بيقين وبيان الزيادة عليه إلى الورثة لأنها مجهولة. قال: (وإن أوصى بسهم من ماله فله السدس) عند أبي حنيفة في رواية الجامع الصغير فإن قال فيه: له أخس سهام الورثة إلا أن ينقص من السدس فيتم له السدس ولا يزاد عليه فكان حاصله أن له السدس. وعلى رواية كتاب الوصايا: له أخس سهام الورثة ما لم يزد على السدس. وقالا: له أخس السهام إلا أن يزيد على الثلث فيكون له الثلث. لهما أن السهم اسم لما يستحقه الورثة عرفا وشرعا، وأقل السهام متيقن، وما زاد عليه مشكوك، ولا يزاد على الثلث لأن الثلث موضع الوصية عند عدم الإجازة. وله ما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أوصى بسهم من ماله، فقضى رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك بالسدس، ولأن السهم يذكر ويراد به السدس لغة. قال إياس: السهم في اللغة السدس، ويذكر ويراد به سهم من سهام الورثة فيعطى الأقل منهما احتياطا. فلو مات وترك امرأة وابنا فللموصى له الثمن على رواية كتاب الوصايا فيزاد على ثمانية فيكون له تسع، وفي رواية الجامع له السدس. ولو ترك امرأة وأخا لأبوين فعنده السدس وعندهما الربع ويصير خمسا؛ ولو ترك ابنين فعنده له السدس، وعندهما الثلث؛ ولو أوصى لرجل بسهم من ماله ثم مات ولا وارث له فله النصف لأن بيت المال بمنزلة ابن فصار كأن له ابنين ولا مانع من الزيادة على الثلث فصح. قال أبو يوسف: لو أوصى لعبده بجزء أو بنصيب أو بطائفة من ماله لا يعتق؛ ولو أوصى بسهم من ماله عتق، لأن السهم عبارة عن السدس أو عن أخس السهام، وأنه معلوم فتنفذ الوصية في جزء منه. أما الجزء والنصيب ليس بمعلوم فلا تنفذ فيه الوصية إلا بإعطاء الورثة ما شاؤوا. قال: (ولو أوصى بجزء أعطاه الوارث ما شاء) وكذلك النصيب والشقص والبعض لأنه اسم لشيء مجهول، والوارث قائم مقام الموصى فكان البيان إليه. قال: (ولو أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث) لأنه إذا أخذ الثلث كان مثل نصيب ابنه، ولو أخذ النصف كان أكثر، ولو أوصى بنصيب ابنه فهي باطلة لأنه وصية بمال الغير لأن نصيب الابن ما يصيبه بعد موت الأب، بخلاف المثل لأن مثل الشيء غيره. قال: (ومن أوصى بثلث دراهمه أو ثلث غنمه فهلك ثلثاها وبقي ثلثها وهي تخرج من ثلثه فله جميعه، وكذا المكيل والموزون والثياب من جنس واحد، وإن كانت مختلفة فله ثلث الباقي، وكذلك العبيد والدور) وقال زفر: له ثلث الباقي في الجميع لأن الكل مشترك بينهما، فما هلك يهلك على الحقين، وما يبقى يبقى عليهما كسائر الأموال المشتركة وكما في الأجناس المختلفة. ولنا أن الوصية تعلقت بالباقي لأنه يجوز أن يستحقه الموصى له بالقسمة مع الورثة لو قسم قبل الهلاك لأنه مما تجري فيه القسمة جبرا وأنه إفراز فيه، وكل ما تعلقت به الوصية وهو يخرج من ثلث المال فهو للموصى له ولا التفات إلى ما هلك، ألا ترى أنه لو أوصى له بثلث شيء بعينه كالدابة والدار والعبد فاستحق ثلثاه كان له الثلث الباقي، ولا كذلك الأجناس المختلفة لأنه لا يجوز أن يستحق الموصى له الباقي بالقسمة، فلم تكن الوصية متعلقة به لأن القسمة لا تجري فيه جبرا، ولو كانت تكون مبادلة فلا يكون له إلا ثلث الباقي ضرورة المبادلة، وهذا ظاهر في الأجناس المختلفة، إذ لا خلاف في عدم قسمة الجبر فيها؛ وأما الدور المختلفة والرقيق فكذلك عند أبي حنيفة لأنها لا تقسم عنده؛ وأما على قولهما قالوا: ينبغي أن تكون كالثياب والغنم لأنها تقسم عندهما، وقيل: لا. أما الدور فإنها تقسم عندهما إذا رأى القاضي ذلك مصلحة فكان في معنى القسمة أضعف مما يقسم بكل حال. وأما الرقيق فإنه وإن كان يقسم عندهما لكن التفاوت بينهما فاحش فصار كجنسين. قال: (ومن أوصى بثلثه لزيد وعمرو وعمرو وميت فالثلث لزيد) لأن عمرا إنما يزاحم لو كان حيا، أما الميت لا يزاحم فبقي الثلث لزيد بلا مزاحم بقوله: ثلث مالي لزيد، ولغا قوله وعمرو. وعن أبي يوسف إن علم بموت عمرو فكذلك لأنه علم أن ذكر عمرو لغو، وإن لم يعلم لزيد نصف الثلث، لأن من زعمه أن الوصية بينهما وأنه إنما أوصى لزيد بنصف الثلث فيكون كما زعم، (ولو قال: بين زيد وعمرو فنصفه لزيد) لأن اللفظ يقتضي التنصيف بينهما، ألا يرى أنه لو قال: ثلث مالي لزيد وسكت كان جميع الثلث له ؟ ولو قال: بين زيد وسكت لا يستحق جميعه. قال: (ومن أوصى لرجل بألف من ماله وله مال عين ودين، والألف يخرج من ثلث العين دفعت إليه) لأنه أمكن تنفيذ الوصية من الثلث الذي هو محلها من غير إضرار بالورثة فينفذ (وإن لم يخرج من العين أخذ ثلث العين وثلث ما يحصل من الدين حتى يستوفيها) لأن التركة مشتركة بينهم فيشتركان في العين والدين بقدر حصصهما، لأن العين خير من الدين، فلو اختص به أحدهما تضرر الآخر فكان العدل فيما ذكرنا. قال: (ومن أوصى بثلثه لفلان وللمساكين، فنصفه لفلان ونصفه للمساكين) وقال محمد: ثلثاه للمساكين، وأصله أن اسم المساكين عنده يتناول الاثنين فصاعدا، لأن الوصية أخت الميراث، والجمع في باب الميراث يتناول الاثنين فصاعدا فكذا هذا. وعندهما يتناول الواحد فصاعدا، لأن الألف واللام تقتضي الجنس، ومتى تعذر الصرف إلى الجنس يصرف إلى الأدنى وهو واحد كاليمين في شرب الماء وتزويج النساء وكلام الناس فإنه يحنث بشرب قطرة وتزويج امرأة وكلام واحد، وههنا تعذر صرفه إلى الجنس لأنهم لا يحصون فيصرف إلى الأدنى وهو الواحد، وعلى هذا لو أوصى بثلثه للمساكين فعند محمد لا يجوز صرفه إلى واحد. وعندهما يجوز لما مر. ولو أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين قال أبو حنيفة رحمه الله: سهم لفلان وسهم للمساكين وسهم للفقراء، لأن الفقراء والمساكين صنفان فكأنه أوصى لثلاثة. وعند أبي يوسف رحمه الله: سهم لفلان وسهم للفقراء والمساكين لأنهما صنف واحد من حيث المعنى، إذ كل واحد من الاسمين ينبئ عن الحاجة. وعند محمد رحمه الله: يقسم على خمسة أسهم: سهم لفلان، ولكل صنف سهمان لما مر. قال: (ولو أوصى لرجلين كل واحد منهما بمائة ثم قال الآخر: أشركتك معهما فله ثلث كل مائة) تحقيقا للشركة، إذ الشركة تقتضي المساواة. ولو أوصى لرجل بمائة ولآخر بخمسين ثم قال لآخر: أشركتك معهما، فله نصف ما لكل واحد، لأنه تعذر المساواة بين الكل لتفاوت المالين فحملناه على مساواة كل واحد منهما عملا بلفظ الشركة بقدر الإمكان. قال: (ولو قال لورثته: لفلان علي دين فصدقوه يصدق إلى الثلث) أي إذا ادعى أكثر من ذلك وكذبه الورثة لأنه إقرار بمجهول فلا يصح إلا بالبيان، فعلمنا أنه قصد تقديمه على الورثة فأمضينا قصده وجعلناه وصية فتكون مقدرة بالثلث. قال: (وإن أوصى لأجنبي ووارث فالنصف للأجنبي وبطل نصف الوارث) لأنه أوصى بما يملك وما لا يملك فيصح فيما يملك وتبطل في الآخر، بخلاف الوصية للحي والميت لأن الميت ليس أهلا للتمليك فلا يكون مزاحما. أما الوارث أهل حتى يصح بإجازة باقي الورثة فيصلح مزاحما.
(ومن أوصى لجيرانه فهم الملاصقون) عند أبي حنيفة وزفر رحمهما الله، وهو القياس لأنه من المجاورة، وهي الملاصقة. قال عليه الصلاة والسلام: (الجار أحق بصقبه) والمراد الملازق لأن غيره لا يستحق الشفعة. وقالا: الملاصقون وغيرهم ممن يصلي في مسجد تلك السكة، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو الاستحسان لأنهم يسمون جيرانا عرفا، يقال: جار ملاصق وغير ملاصق، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) وفسر بكل من سمع النداء ولأن قصده البر، وهو فيما ذكرناه أعم إلا أنه لا بد من الاختلاط بينهم، وذلك باتحاد المسجد والمالك والساكن فيه سواء، وكذلك الذكر والأنثى والصغير والكبير والمسلم والذمي، لأن اسم الجار يتناولهم. قال: (والأصهار: كل ذي رحم محرم من زوجته) لأن النبي عليه الصلاة والسلام أعتق كل ذي رحم محرم من زوجته صفية، وكانوا يسمون أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه كل ذي رحم محرم من زوجة كل ذي رحم محرم منه، فلو مات بعد زوال النكاح بطلت الوصية، لأنه يشترط وجود الصهرية عند الموت وبقاؤها ببقاء النكاح. قال: (والأختان: زوج كل ذات رحم محرم منه) ويدخل فيه الأقرب والأبعد والعبد والحر لتناول اللفظ الجميع. ومن كلامهم: نعم الختن القبر. وعند أهل الللغة اختلاف في الأصهار والأختان غير ما ذكرنا، والعرف على ما ذكرنا والحكم به. قال: (والأهل: الزوجة) وعندهما كل من يعوله وتجمعه نفقته ومنزله من الأحرار دون الرقيق، وإن كان يعوله وليس في منزله لا يدخل عملا بالعرف. قال تعالى: {وأتوني بأهلكم أجمعين} [يوسف: 93] ولأبي حنيفة رحمه الله أن الحقيقة ما ذكرنا، يقال: تأهّل فلان ببلد كذا إذا تزوج بها، وانصراف الفهم إليه عند الإطلاق دليل الحقيقة. وقال تعالى: {قال لأهله امكثوا} [القصص: 29] أي لزوجته: وقال تعالى:) فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله} [القصص: 29] أي زوجته بنت شعيب عليه السلام. قال: (والآل: أهل بيته) لأن آل فلان قبيلته التي ينسب إليها. ولو أوصى لأهل بيت فلان يدخل فيه أبوه وجده، لأن الأب أصل البيت. قال: (وأهل نسبه: من ينتسب إليه من جهة الأب) لأن النسب إلى الآباء. قال: (وجنسه: أهل بيت أبيه) لأن الشخص يتجنس بأبيه، فابن التركي تركي، وابن الهندي هندي. فالحاصل أن أهل البيت والنسب والجنس والآل أقرباؤه من قبل أبيه إلى أقصى جد يجمعهم في الإسلام، ويدخل في الغني والفقير وإن كانوا لا يحصون، لأن اسم القرابة يتناولهما، والوصية للغني القريب قربة لأنه صلة الرحم. قال: (وإن أوصى لأقربائه أو لذوي قرابته، أو لأرحامه، أو لذوي أرحامه، أو لأنسابه فهم اثنان فصاعدا من كل ذي رحم محرم منه، غير الوالدين والمولدين؛ وفي الجد روايتان) وقال: يستحقه الواحد ويستوي فيه المحرم وغير المحرم والقريب والبعيد إلى كل من ينتسب إلى أقصى أب له في الإسلام، لأن القرابة تنتظم الكل لما روي أنه لما نزل قوله تعالى:) وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] صعد النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا بني فلان، يا بني فلان) حتى دعا قبائل قريش، وقال لهم: (إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد) فدل أن القرابة تتناول القريب والبعيد. وقولهما إلى أقصى أب له في الإسلام كالعباسي والعلوي يدخل في وصيته كل من ينسب إلى العباس وإلى علي رضي الله عنهما، لأن الجد المسلم صار هو البيت وشرفوا به فلا اعتبار بمن تقدمه ممن لم يسلم. ولأبي حنيفة أن قوله لذوي قرابتي اسم جمع، والمثنى جمع من وجه لوجود الاجتماع، ولأن الوصية أخت الميراث، وأقل الجمع في الميراث اثنان، ولأن المقصود بها الصلة فتختص بالرحم المحرم كالنفقة، ويستوي فيه الرجال والنساء للإطلاق، ولا يدخل فيه الوالد والولد. قال تعالى: {للوالدين والأقربين} [البقرة: 180] والمعطوف غير المعطوف عليه، وإذا لم يكن الوالد قريبا للولد لا يكون الولد قريبا له، ولا يدخل الجد والجدة وولد الولد من ذكر وأنثى لأنهم ليسوا أقرباء، لأن القريب لغة: من يتقرب إلى غيره بواسطة غيره، وتكون الجزئية بينهما منعدمة، وتقرب الوالد والولد بنفسه لا بغيره، والجد والحفدة الجزئية بينهما ثابتة، ويشترط أن لا يكون وارثا لأن الوصية لا تصح للوارث. قال: (ويعتبر الأقرب فالأقرب) عند أبي حنيفة أيضا (فإن كان له عم وخالان فللعم النصف وللخالين النصف) وقالا: بينهم أثلاثا (وفي عمين وخالين الكل للعمين) وعندهما بينهم أرباعا. لأبي حنيفة أن الوصية أخت الميراث فيعتبر الأقرب فالأقرب كما في الميراث، فلا يرث الخال مع العمين، وفي المسألة الأولى للعم النصف لأنه لا بد من التثنية لما مر عنده فبقي الباقي للخالين. ولهما ما تقدم أن اسم القريب يتناول القريب والبعيد على ما مر. قال: (ولو كان له عم واحد فله نصف الثلث) عنده، وعندهما جميعه (وإن كان له عم وعمة وخال فالوصية للعم والعمة سواء) لاستوائهما في القرابة وهي أقوى من الخؤولة والعمة. وإن لم تكن وارثة تستحق الوصية بلفظ القرابة، كما إذا كان القريب عبدا أو كافرا. قال: (وإن قال لذي قرابته أو ذي نسبه فكذلك) الخلاف (إلا أن الواحد يستحق الكل) بالإجماع، لأن لفظ ذي فرد فيستحقه الواحد، ففي مسألة العم والخالين يستحق العم الجميع لما قلنا؛ ولو قال لذوي قرابته أو لأنسابه فالأقرب فالأقرب يستحق الواحد الجميع إذا انفرد، لأن قوله الأقرب فالأقرب خرج تفسيرا لما تقدم، والأقرب اسم فرد، ويدخل فيه ذو الرحم المحرم وغيره، لأن قوله الأقرب فالأقرب يتناول الكل، ويثبت الاستحقاق للأبعد عند عدم الأقرب ولا يأخذ معه عملا بقوله الأقرب فالأقرب. قال: (فإن لم يكن له ذو رحم محرم بطلت الوصية) عند أبي حنيفة خلافا لهما، والأصل ما مر. قال: (أوصى لبني فلان وهو أبو قبيلة كبني تميم فهي للذكر والأنثى والفقير والغني وإن كانوا لا يحصون فهي باطلة) والأصل فيه أن كل وصية يحصى عدد أهلها فهي جائزة، وهي بينهم بالسوية على عدد رؤوسهم الذكر والأنثى فهي سواء، ويدخل فيها الغني والفقير، لأن الحق يجوز إثباته لمعين من بني آدم فإن التسليم إليه ممكن، ولا دلالة على التخصيص فصحت الوصية، وإن كان لا يحصى عددهم فعلى ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون الوصية لا يدخل فيها غني كقوله: فقراء بني تميم أو مساكينهم فالوصية صحيحة، وتكون الوصية لمن قدر عليه منهم، لأن الوصية وقعت لله تعالى والفقراء مصارفها. والثاني أن يكون لفظ الوصية يقع للفقير والغني ولا يختص به أحدهما فهي باطلة، كقوله بني تميم لأنها تثبت للعباد ولا يمكن تنفيذها لجميع بني تميم لأنهم لا يحصون، ولا يمكن تنفيذها للبعض لأنه ليس بأولى من البعض الآخر فبطلت، بخلاف الوجه الأول لأن الموصى له واحدا، وهو الله تعالى. الوجه الثالث أن يكون اللفظ يتناول الفقير والغني، لكن قد يستعمل اللفظ في ذوي الحاجة كقوله: يتامى بني تميم، أو عميان بني تميم، أو زمنى بني تميم، أو أرامل بني تميم، فإن كانوا يحصون فالاسم يقع على الفقير والغني وتكون الوصية لهما، لأنهم معينون يمكن التسليم إليهم فيجري اللفظ على إطلاقه، وإن كانوا لا يحصون كان للفقراء منهم، لأن هذا اللفظ يذكر ويراد به غالبا أهل الحاجة، فإن الله تعالى ذكر اليتامى في آية الخمس وأراد الفقراء منهم فوجب تخصيص الوصية وحملها على أهل الحاجة منهم، ولأن القرابة والثواب فيهم أكثر وهو المقصود غالبا، ويستوي فيه الذكر والأنثى، لأن الاستحقاق بالعقد لا يتفضل فيه الذكر والأنثى كالاستحقاق بالبيع، ولو قال: لفقراء بني فلان وهو أبو قبيلة لا يحصون دخل مواليهم في الوصية مولى الموالاة ومولى العتاقة وحلفاؤهم، وإن كانوا بني أب ليس بقبيلة يختص ببني فلان من العرب دون الموالي والحلفاء، لأنهم إذا لم يحصوا فالمراد بها النسبة وذلك موجود في الموالي والحلفاء وإذا ذكر البنوة ممن يحصون فالمراد الأولاد دون النسبة. قال: (وإن كان أبا صلب فالوصية للذكور خاصة) عند أبي حنيفة رحمه الله، وكان يقول أولا: هم للذكور والإناث، وهو قولهما لأنه متى اختلط الذكور والإناث فخطاب الرجال يعم الجميع كقولهم: بنو آدم وبنو هاشم. ولأبي حنيفة رحمه الله أن حقيقة اللفظ للذكر خاصة وما ذكره مجاز، والعمل بالحقيقة أولى. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لو لم يكن لفلان ولد لصلبه يعطى ولد ولده من قبل الرجال دون الإناث، ولا يشترك في هذا النساء مع الرجال، إنما هي للرجال خاصة، بخلاف اسم الولد على ما يأتي إن شاء الله تعالى. قال: (ولو أوصى لأيتام بني فلان أو عميانهم أو زمناهم أو أراملهم وهم يحصون فهي للفقراء والأغنياء، وإن كانوا لا يحصون فللفقراء خاصة) وقد مر، وكذلك إذا أوصى لمجاوري مكة فهي كالوصية للأيتام؛ واليتيم: كل من مات أبوه ولم يبلغ الحلم، غنيا كان أو فقيرا؛ والأرملة: كل امرأة بالغة فقيرة فارقها زوجها أو مات عنها، دخل بها أو لم يدخل من قولهم: أرمل القوم: إذا فني زادهم، ويسمى الذكر أرملا مجازا. قال: كل الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر والأيم: كل امرأة لا زوج لها وقد جومعت حراما أو حلالا بلغت أو لم تبلغ فقيرة أو غنية، هكذا ذكره محمد رحمه الله، وقوله حجة في اللغة. الشاب والفتى من خمسة عشر سنة إلى أن يصير كهلا، لأنه من شب إذا نما وازداد وهو في النمو إلى أن يكتهل. والغلام: ما لم يبلغ من الغلمة وهي السكرة والغفلة لأنه ما لم يبلغ كالسكران في لهوه وصباه. والكهل: من ثلاثين سنة، فإذا وخطه الشيب فهو شيخ قاله الجوهري. وعن أبي يوسف ومحمد الكهل من أربعين إلى خمسين إلا إذا غلب الشيب فهو شيخ. وعن أبي يوسف إذا بلغ ثلاثين وخالطه شيب فهو كهل، وإن لم يخالطه فهو شاب، والعبرة للشيب والشمط فإن الناس تعارفوا ذلك وأطلقوا الاسم عند وجود العلامة. والكهولة من الاكتهال وهو الاكتمال، ومنه اكتهل الزرع إذا أدرك وابيضّ. والشيخ: من خمسين إلى آخر العمر. قال أبو يوسف: إن كانوا لا يحصون إلا بكتاب وحساب فهم لا يحصون. وقال محمد: إن كانوا أكثر من مائة لا يحصون، والمختار أن يفوض الأمر إلى القاضي وهو الأحوط. قال: (أوصى لورثة فلان للذكر مثل حظ الأنثيين) اعتبارا بالميراث لأن اسم الورثة دل عليه (وإن قال لولد فلان الذكر والأنثى فيه سواء) لأنه لا دلالة على التفضيل واللفظ يتناول الكل لأن الولد اسم لجنس المولود ذكرا كان أو أنثى واحدا أو أكثر، ويدخل فيه الحمل لأنه ولد حتى ورث (ولا يدخل أولاد الابن مع أولاد الصلب) لأن الولد حقيقة يتناول ولد الصلب، ولو كان له بنات لصلبه وبنو ابن فالوصية للبنات عملا بالحقيقة (ويدخل أولاد الابن في الوصية عند عدم ولد الصلب) لأن اسم الولد ينتظم ولد الصلب حقيقة وولد الولد مجازا، فإذا تعذرت الحقيقة صرف إلى المجاز تحرزا عن التعطيل (ولا يدخل أولاد البنات) وروى الخصاف عن محمد أنهم يدخلون، وذكر في السير الكبير: إذا أخذ أمانا لنفسه ولولده لم يدخل فيه ولد البنات، وجه رواية الخصاف أن الولد ينسب إلى أبويه حقيقة وينسب إلى جده مجازا، فإذا نسب إلى جده أب أبيه بأنه ابنه مجازا، فكذلك ينسب إلى أب أمه، ولأن عيسى عليه السلام يقال له ابن آدم ولا ينسب إليه إلا من أمه. وجه الظاهر أن أولاد البنات ينسبون إلى أبيهم، قال: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد وإذا نسبوا إلى آبائهم لم ينسبوا إلى أب الأم فلا يدخلون في الوصية له، ومما يدل عليه قوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} [الأحزاب: 40] ولو كان ولد البنت ينسب إليه لكان أبا للحسن والحسين رضي الله عنهما. قال: (أوصى لمواليه فهي لمن أعتقه في الصحة والمرض ولأولادهم) من الرجال والنساء، وسواء أعتقه قبل الوصية أو بعدها، لأن الوصية تتعلق بالموت، وكل واحد من هؤلاء ثبت له الولاء عند الموت فاستحق الوصية لوجود الصفة فيه، وأولادهم أيضا ينسبون إليه بالولاء المعلق بالعتق فيدخلون معهم، والمدبرون وأمهات الأولاد لا يدخلون. وعن أبي يوسف أنهم يدخلون لأنهم استحقوا الحرية بسبب لا يلحقه الفسخ فنسبوا إلى الولاء كالمعتق. وجه الظاهر أن الوصية تستحق بالموت وهؤلاء يعتقون عقيب الموت، ويثبت لهم الولاء بعده، فحال نفوذ الوصية لم يكونوا موالي فلا يدخلون فيها. ولو قال لعبده: إن لم أضربك فأنت حر فمات قبل ضربه دخل في الوصية لأنه يعتق عند عجزه عن الضرب، وذلك في آخر الجزء من أجزاء حياته فيستحق اسم الولاء عقيب الموت فيدخل في الوصية. وأما موالي الموالاة قال أبو يوسف: إذا كان الموصي من العرب وله موالي عتاقة وموالي موالاة، فهم شركاء في الوصية، لأن الاسم يشمل الكل. وقال محمد في الجامع الكبير: الوصية لولاء العتاقة وأولادهم دون موالي الموالاة، لأن ولاء العتاقة بالعتق، وولاء الموالاة بالعقد فهما معنيان متغايران فلا ينتظمهما لفظ واحد، ومولى العتاقة ألزم فيحمل عليه، بخلاف الأولاد لأنهم ينسبون هم والآباء إليه بولاء واحد. قال: (ولا يدخل موالي الموالي إلا عند عدمهم) لأنهم موالي غيره حقيقة، وهم بمنزلة ولد الولد مع ولد الصلب، فإن الموالي حقيقة الذين أوقع عليهم العتق، وموالي الموالي ينسبون إليه مجازا، فلا يتناولهم الاسم إلا عند عدم الموالي حقيقة لما مر، فإن كان له موليان فالثلث لهما، لأن اسم الجمع في الوصايا يحمل على الاثنين فصاعدا لما مرّ. قال: (فإن كان له مولى واحد ومولى موالاة فالنصف لمولاه والباقي لورثته) لما بينا أن اسم الجمع يتناول الاثنين فصاعدا، فيستحق الواحد النصف ويسقط مولى الموالاة لتعذر العمل بالحقيقة والمجاز فيصرف إلى الورثة، ونظيره الوصية للولد وله ولد واحد وولد ولد، فللصبي نصف الثلث والباقي للورثة، ولا شيء لولد الولد والعلة ما بينا. قال: (وإن كان له موال أعتقوه موال أعتقهم فهي باطلة) لأن اسم الموالي يتناولهما ومعناهما مختلف، لأن أحدهما أنعم ولآخر أنعم عليه وليس أحدهما أولى من الآخر فتعذر العمل بعموم اللفظ، لأن الاسم المشترط لا ينتظم المعنيين المختلفين في حالة واحدة فبقي الموصى له مجهولا، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنها جائزة وتكون للفريقين لأن الاسم ينتظمهما ولا يدخل موالي أبيه. وقال أبو يوسف: يدخلون لأنهم مواليه حكما حتى يرثهم بالولاء فدخلوا تحت الاسم، وجه الظاهر أنه لم يعتقهم فلا يكونون مواليه حقيقة ولم ينسبوا إليه بالولاء، بخلاف ابن المولى فإنه ينسب إليه بالولاء بواسطة أبيه وإنما يرثهم بالعصوبة لا بالولاء، بخلاف معتق البعض لأنه ينسب إليه بالولاء. مسائل منثورة وصي باع ضيعة لليتيم من مفلس يؤجل القاضي المشتري ثلاثة أيام، فإن نقد الثمن وإلا فسخ البيع نظرا لليتيم. أوصى إلى رجل بأن يضع ثلث ماله حيث أحب، فله أن يجعله في نفسه لأنه امتثل أمر الموصي فيجري على إطلاقه؛ ولو قال أعطه من شئت لا يعطي نفسه، لأن الإعطاء لا يتحقق إلا بأخذ غيره، والدفع والأخذ لا يتحقق من الواحد، بخلاف الوضع فإنه يتحقق عند نفسه، ولو قال: تصدق عني بهذه العشرة على عشرة مساكين فتصدق على مسكين واحد؛ أو قال تصدق على مسكين واحد فتصدق على عشرة جاز، لأن الصدقة قربة لله تعالى والمساكين مصارف كالزكاة. وروى الحسن عن أبي حنيفة وابن سماعة عن أبي يوسف أنه لا يجوز، وعن محمد لو أوصى أن يتصدق عنه بهذه الألف أو هذا الثوب أو بهذا العبد أو يهدي عنه هذه البدنة ليس للوصي أن يتصدق بالقيمة، والمختار أنه يجوز فيها دفع القيّم كما في الزكاة والصدقة ولو أوصى بأن يتخذ طعاما للناس بعد وفاته ويطعم الذين يحضرون التعزية ثلاثة أيام، قال الفقيه أبو جعفر: يجوز من الثلث للذين يحضرون التعزية من مكان بعيد ويطول مقامهم عنده، والأغنياء والفقراء سواء، ولا يجوز لمن لا يطول مقامه، وإن فعل الوصي من الطعام شيئا كثيرا يضمن، وإن كان قليلا لا يضمن؛ وقيل الوصية باطلة، والوصية بالكفن والدفن وبالنقل من موضع إلى موضع باطلة لأن ولايته في ماله قد انقطعت بالموت، ولو أوصى بأن يطيّن قبره أو تجعل عليه قبة أو يدفع شيئا إلى من يقرأ عند قبره القرآن فالوصية باطلة لأن عمارة القبور للأحكام مكروه، وأخذ الشيء للقراءة لا يجوز لأنه كالأجرة، ووصية الذمي للبيعة والكنيسة تجوز. اعلم أن وصية الذمي إما إن كانت بقربة عندنا وعندهم أو عندهم أو عندنا، أو لا تكون قربة أصلا؛ فالأول مثل الوصية لبيت المقدس في عمارته ودهن مصابيحه، والوصية للغزاة الذين يقاتلون من خالفهم من أهل الحرب، فهذه صحيحة لأنها قربة في الحقيقة وفي معتقدهم؛ ومثال الثاني أن يوصي بداره لبيعة أو كنيسة، أو لبناء بيعة أو كنيسة، أو أوصى أن تذبح خنازيره ويطعم المشركون فإنه يجوز. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز لأن ذلك معصية، وفي الجواز تقريرها فلا تجوز. ولأبي حنيفة أن ذلك قربة في معتقدهم وقد أمرنا أن نتركهم وما يدينون، قال عليه الصلاة والسلام: (اتركوهم وما يدينون) أي يعتقدون فيجوز ذلك بناء على اعتقادهم. وأما قوله بأنه تقرير المعصية فليس بشيء لأن ذلك لو منع لما جاز قبول الجزية لأنه تقرير لكفرهم وبقائهم عليه؛ ومثال الثالثة الوصية لمساجدنا بالعمارة والحج وغير ذلك فهي باطلة نظرا إلى اعتقادهم؛ ومثال الرابعة الوصية للنوائح والمغنيات فإنه لا يجوز لأنه معصية عندنا وعندهم وفي جميع الأديان فلا وجه إلى الجواز، ولو كان لقوم معلومين معينين جاز بطريق التمليك لا بطريق الوصية والاستخلاف، وكذلك الفصل الثالث. حربي دخل دارنا بأمان فأوصى بجميع ماله لمسلم أو ذمي جاز، لأن عدم الجواز بما زاد على الثلث إنما كان لحق الورثة، ألا ترى أنهم لو أجازوا جاز، وليس للورثة حق محترم لكونهم في دار الحرب إذ هم كالأموات في أحكامنا فصار كأن لا وارث له فيصح.
|